لا تغيب مشاهد القتل والدمار والتنكيل بالنساء والأطفال والشيوخ والحصار الجائر، عن أيٍّ منا هذه الأيام العصيبة، حتى في أحلامنا، والتي يبرهن فيه طغاة العصر أنهم مجردون من القيم الاساسية لبني البشر في التعامل مع بعضهم البعض، وفي الوقت الذي تخرج فيه الأصوات منادية بوقف الحرب، ومنع التهجير القسري للفلسطينيين في غزة، تمعن آلة القتل والبطش الإسرائيلية في الوحشية، أمام مرآى ومسمع العالم الصامت، وبالتالي دفع الناس لفعل كل ما بوسعهم للدفاع عن أنفسهم.
في هذه الأيام، حين تغيب «الإنسانية» ويتفشى الظلم والقسوة والتجويع، وإرتكاب جرائم الحرب، أمام عدسات الكاميرا، تخفت أصوات المنادين بحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، التي تكتفي ببيانات «لا تقدم ولا تؤخر»، وهم أنفسهم مَنْ تتعالى أصواتهم وتزمجر حناجرهم عندما يتعلق الأمر بحقوق «الحيوان» أو البيئة، أو حرية التعبير، وهو أمر غير مستغرب طالما وقف العالم المتحضر داعماً لآلة الحرب الاسرائيلية في قتل الأطفال وقصف منازل المدنيين، وإزهاق أرواح الابرياء الآمنين في غزة المنكوبة.
ما يحدث في غزة هذه الأيام خير دليل على الانتقائية بين بني البشر، فمن وجهة نظر البعض، هناك من يستحق الدفاع عنه وترصد المليارات لحمايته، وهناك من لا يستحق أن يعيش أصلاً، دون إعتبار لوسيلة القتل والتشريد والإبادة الجماعية المرتكبة، وفي حالة غزة المحاصرة وفلسطين المحتلة، يُنْتَهجْ «التطهير العرقي» منذ أكثر من سبعين عاماّ، والعالم يغض البصر أو يتعامى عما يحدث، وكأنه راضٍ عن ذلك، إلا مَنْ رحم ربي، وفي حالة غزة، لا تحتاج المحكمة الجنائية الدولية الى شكوى أو وثائق فحرب الإبادة وإستهداف المدنيين بالمستشفيات والمدار? ودور العبادة، واضحة ولا لبس فيها.
الأمثلة كثيرة على جرائم الحرب الصهيونية ضد الفلسطينيين، لا بل تعدى الأمر لقتل الصحفيين وموظفي الهلال والصليب الأحمر والاطباء والكوادر الطبية وقصف سيارات الإسعاف..إلخ، وهذا تخلّي فاضح عن القيم الإنسانية الأسمى التي ينتهجها العالم عادة في التعامل مع بعضهم البعض، بغض النظر عن الهوية، الدين، العرق أو الاصل، وهو ما أشّر له جلالة الملك في قمة القاهرة للسلام، عندما قال:» الرسالة التي يسمعها العالم العربي عالية وواضحة: حياة الفلسطينيين أقل أهمية من حياة الإسرائيليين، حياتنا أقل أهمية من حياة الآخرين».
هذه العبارة تُظهر حجم السخط الذي يكتنف شعوب الأرض المسحوقة،وهي رسالة خطيرة نتائجها غير متوقعة، وستكون عواقب اللامبالاة والتقاعس الدوليين المستمرين في حالة فلسطين، كارثية على الجميع، ففي غياب البعد » الإنساني» خصوصاً خلال الحروب والنزاعات، ينزع الانسان نحو الشر والقتل والتدمير وبدون رحمة، وإذا لم يكن هناك من يقول كفى..! تتعمق الإنتهاكات لحقوق الانسان، وتتكسّر الاخلاقيات التي تنص عليها الشرعات الدولية، ويدفع الثمن العزّل والفئات الأقل قدرة وهي النساء والأطفال والشيوخ.
لكن ما هو العلاج لكل هذه الوحشية؟ وكيف يمكننا التشبث بإنسانيتنا حتى في خضم الصراعات الدموية العنيفة؟ ومن أين نبدأ في هذه الغابة المليئة بالوحوش؟.
هنا، نحتاج الى تحقيق العدالة ونصرة المظلوم وإعادة الحقوق لأصحابها، ليعيشوا كغيرهم من الشعوب على وجه هذه الأرض، بكرامة وإنسانية، ووقف الإستقواء بالنفوذ والقوة العسكرية والدعم اللامحود للمعتدي، وإعادة المهجّرين الى بيوتهم وقراهم ومدنهم، وإحترام معتقدات الناس ودياناتها وحرمة مقدساتها، وبغير ذلك، سنبقى كمن يحرث البحر، وسنعود لدوامات القتل والعنف، ولن نجني إلا الكراهية واليأس والدمار والتعطش لإراقة الدماء.
[email protected]